السبت، 1 أكتوبر 2011

طابور الصباح





أيقظته الضوضاء التي لم يدرك مصدرها في البداية . كان رفع جسده من على مرتبة الفراش النحيلة أصعب جزء في اليوم كالعادة  , نهض و هو يهرش مؤخرة عنقه التي التوت من نومته السيئة و هو يتجه نحو خصاص الشرفة المترب لينظر من خلاله إلى المدرسة التي تقع أسفل شقته بالضبط , مدرسة ابتدائية مليئة بالملابس الكحلية التي ارتداها هو في يوم من الأيام , هل كانت ملابس مدرسته كحلية فعلاً ؟ لعلها كانت بنية أو رمادية ,هو لا يذكر و لا يهتم ..
نظر ملياً إلى الأجساد الصغيرة التي تلعب و تعبث عبثاً لا يفهمه بعد أن كان يفعل يوماً , ذهب ليعد لنفسه شيئاً دافئاً يجعله يفيق . عاد و في يده قدحاً من القهوة المرة التي تزيد من مرارة صباحاته , فتح الشرفة عن آخرها ليدع ضوء النهار الهادئ يدخل إلى الحجرة البنية المظلمة , يقولون أن الشمس و الهواء و هذه الأشياء تشعر المرء بالسعادة و الانتعاش , و ها هو يملأ عينيه و  رئتيه عن آخرهما بلا جدوى .. تباً لكل شئ ....
رشف رشفة من السائل البني القذر الذي يفترض به أن يرفع ضغطه المنخفض فتتسع فتحتا عينيه قليلاً بدلاً من هذه التسبيلة "الحريمي" الناعسة ! كان يقطن في الدور الثاني لذا كان يسطتيع رؤية الأولاد في الحوش و يستطيعون رؤيته بسهولة , نظر إليه فعلاً عدد قليل منهم و تهامسوا قليلاً فيما بينهم . لم يكن يعرف أسماء أولئك الأطفال و لا أعمارهم و لا كيف يبدو ذويهم , كل ما كان يعرف هو ثقته فيما يفكرون فيه الآن و هم ينظرون إليه , كان يعرف جيداً أنهم يحسدونه و يودون لو كانوا مكانه ! لم لا ؟ لم لا و هو في نظرهم ذلك الشاب الوسيم الذي يرتدي ما يحلو له , و يستيقظ في الوقت الذي يحلو له ليقف في شرفته يرتشف مشروباً لذيذا من ذلك القدح في يده , لا بد و أنه الكاكاو الذي يفضلونه , أكيد هو !  كيف لا يحسدونه و هو لا يذاكر و يخرج في الوقت الذي يشاء ليمرح كما يشاء , هه ؟ كيف ؟
ابتسم في سخرية و هو يتذكر ذلك التوق الشديد الذي تملكه هو نفسه في مختلف أوقات حياته . قبل المدرسة تمنى لو كان في المدرسة حيث الأصدقاء و اللعب و الإثارة بدلاً من التلفاز الممل و الجلوس في البيت بلا عمل طوال اليوم . في المدرسة تمنى لو كان في الجامعة حيث الحرية و الفتيات بدلاً من الواجبات التي تورم يده و الحقيبة التي تحني ظهره . في الجامعة تمنى لو يتخرج حيث العمل و المسؤولية و الأهمية و المستقبل الباهر بدلاً من المحاضرات الطويلة المملة و خطط العصابات التي يضعها الفتيان ليوقعوا بالفتيات و العكس . بعد التخرج تمتى لو يتزوج حيث الحب و الاستقرار و البيت الهادئ الجميل بدلاً من الصداع و الوحدة و السهر المضني في المكتب .
في كل مرحلة يكون مقتنعاً أن ما هو فيه هو أسوأ شئ في الوجود و أن ما هو آت هو أجمل شئ في الوجود , لم يرتح و يقنع و لو لمرة واحدة بما هو فيه في أي لحظة من لحظات حياته , فهل هذا هو ما كانت خالته دوماً تطلق عليه لفظة "البطر" , تتبعها بعبارة " يا ابنى البطران حاله قطران" ؟ هل هو كذلك فعلاً ؟ بطران على طول الخط ؟؟
 نظر إلى يساره حيث البناية الملاصقة لبنايته , شرفة توازي شرفته في الارتفاع تقريباً , يجلس فيها رجل مسن مسترخياً على مقعد من الخوص و أمامه جريدة و فنجان فارغ , و قد أسبل الرجل جفنيه فيما يشبه الاستمتاع أو الرضا . ترى , إلى أي مرحلة يصبو هذا الشيخ و قد انتهت تقريباً كل مراحل و فرص حياته ؟ هل يصبو إلى الجنة مثلاً ؟ هل ماتت زوجته التي أحبها و هو يمني نفسه الآن باللحاق بها ؟ هل هذا هو معنى التوق الدائم إلى المستقبل ؟ و هل أراد الله لنا أن ننظر دائماً إلى الأمام ثم إلى الأمام ثم إلى الأمام ؟ هل هي فطرة وضعت فينا جعلتنا نضع الجنة نصب أعيننا حتى نعمل جاهدين للوصول لها و نظل نحلم به طوال حياتنا ؟ ناظرين إلى الأمام دون أن ندري السبب الحقيقي لذلك ؟
أنهى قدح القهوة المرة و هو يتململ في وقفته استعداداً للدخول مرة أخرى , ألقى نظرة أخيرة على الأطفال في الحوش و الشيخ في الشرفة المجاورة , هو الآن يقف في المنتصف بالضبط تقريباً بين الاثنين , و هو ناقم بكل تأكيد على ما هو فيه الآن , يتمنى لو ينتقل إلى مرحلة الشيخ حيث .. حيث .. حيث اللاشئ في الواقع , هذا الشيخ حياته تنتهي أما هو فحياته تكاد تبدأ . نظر إلأى الأطفال مرة أخرى و هو يتمنى لو يعود طفلاً مرة أخرى , أو يعود إلى الجامعة , صحيح أن تلك الفترات كانت تحمل ألماً و تعباً لكنه راغب في أن يكون أي شخص سواه في تلك اللحظة , أن ينتقل إلى الخلف أو إلى الأمام , ربما لو انتقل إلى الأمام لانتهت حياته و لكف عن محاولة التغيير و التنقيح , و ربما لو انتقل إلى الخلف لعاش حياته بطريقة أفضل بكثير من التي عاشها بها فعلاً .. إنه نادم على غبائه بشدة !
دخل إلى حجرته و أغلق خصاص الشرفة باحكام كي يمنع الضوء من الدخول فهو لا يملك الوقت الكافي للتسكع في الشرفة و مشاهدة الأطفال و الشيوخ , لديه الكثير من الاكتئاب ليعيشه , و الاكتئاب يحتاج إلى الوقت و التركيز  و الهدوء !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق