الخميس، 29 سبتمبر 2011

ياقة المعطف


شد ياقة المعطف على عنقه كي يمنع تيار الهواء البارد من الدخول إلى جسده الدافئ  رغم احتياجه إلى ألم يفوق ألمه و قشعريرة باردة تنفض عنه جل و ربما كل ما يشعر به إن كان هذا ممكناً .. كان يقف في أحب بقعة له في الوجود , أمامه شمس الغروب البرتقالية التي انعكس ضيها في عينيه المتعبتين , عينين صار بياضهما أحمر عكراً من فرط السهر و البكاء و التحديق اللانهائي و الغير ذي فائدة في أي شاشة تشع ضوءاً .. نعم هو يبكي , كان يخجل من ذلك فيما مضى لكنه تعلم أن الخجل شعور مرفه جداً مقارنة بما يشعر به الآن .. ما يشعر به الآن ليس ألماً و ليته كان .. ليس يأساً كما تعود أن يكون .. ما يشعر به الآن ليس سوى أملاً و طموحاً تحطم بعنف حتى دخلت شظاياه  في عينيه , و ربما كان هذا هو السبب في عكارتهما الدموية و ليس الدموع , اذ كيف تصنع الدموع كل هذا ؟ كيف تحول الدموع عيناً نجلاء إلى بئر من الكآبة ؟
شد ياقة المعطف على عنقه مرة أخرى مع نسمة الهواء التي جاءت أقوى من سابقتها , تنسم عبير البحر الذي راحت الشمس تنحدر فيه رويداً رويداً .. بنفس البطء و النعومة التي يتمنى أن تنسحب بها روحه الآن  .. صحيح أنه في أحب الأماكن إلى قلبه و في أحب الأوقات لكنه في أسوأ و أحلك لحظة في حياته .. أتراها كذلك فعلاً ؟ إنه لمن المرعب تصور أن هناك أسوأ مما هو فيه الآن .. لا  , لتكن هذه هي اللحظة الأسوأ , أنا موافق !
شد ياقة المعطف للمرة الثالثة و هو ينفث الدخان من بين الشفاه الجافة التي كانت يوماً لا تفتأ تبتسم , كان الكل يحب ضحكته رغم آلامه العديدة . كان ساخراً و كانوا يقولون أن كل شئ يصبح بلا طعم بدونه . أين هم الآن ؟ و هل يا ترى لو أتوا أو ظهروا الآن سيشكل هذا فارقاً ؟ 
عاد ينفث الأبخرة من بين شفتيه , لا يعرف ان كانت أبخرة البرد أم السيجار التي أقسم ألا يقربها أم قلبه الذي يحترق لوعة و ما من شئ قادر على اطفائه مرة أخرى و لا حتى البرد المحيط به !
عقد ذراعية على صدره مستمتعاً بدفء جسده من الداخل تحت المعطف الثمين و برودة أطرافه التي يضربها هواء الشتاء .. آه , إنه الشتاء , انتظره طويلاً حتى يأتي إلى هنا .
حرك يديه على المعطف الأنيق ليجده مبللاً ببضع قطرات من الماء , لا يعرف أهو الندى أم زخات من مطر خفيف أم رذاذ الأمواج أم دموعه التي غافلته و سقطت من عينيه دون أن يدري ..
هبط بعينه إلى حذائه الأنيق الذي لوثته الرمال , قديماً كان سيجزع و يلقي بالأتربة يميناً و يساراً خوفاً على حذائه الرائع , أما الآن فقد داست الدنيا على قلبه و روحه ذاتها , حتى صارا متربين أكثر من هذا الحذاء , فأي شئ بعد هذا يهم ؟ هه ؟ أي شئ ؟
ملامحه الوسيمة التي لم يرها يوماً كذلك اكتست بطبقة سميكة من الجدية أضافته لعمره ضعف عمره , ملابسه الأنيقة التي حرص على اختيارها بدقة .. كل الأشياء التي كانت تجلب له الحقد و الحسد من كل من حوله . فقط لو يعرفون ما تخفيه الملامح الوسيمة من عقد نفسية , و الملابس الأنيقة من أمراض تركت أثرها على الجسد المتهالك رغم حداثة السن ! فقط لو يعلمون , لكفوا عن زيادة ألمه بحسده على ما لا يملك ..

كانت عينيه لا تزالا معلقتين بالحذاء ذي اللون الترابي الذي كان منذ نصف ساعة فقط في سواد الأبنوس , سرحت عينيه في الأشكال العشوائية المزخرفة على الرمال نصف الناعمة .. كأنها رسوم سيريالية .. ابتسم في سخرية و هو يذكر أنه هو أيضاً كان يرسم , و كان الكل يشيد برسمه , كان فناناً ! لكنه كف عن الرسم فجأة لسبب لا يعلمه أحد , منذ عام و هو لا يفعل ما يحب و لا ما يفترض به أن يفعل دون سبب منطقي أو حتى غير منطقي ..
حرك قدميه ناثراً الرمال هنا و هناك في حركات يائسة كأنها رفسات الموت , كان يحاول أن يرسم بقدميه بعد أن عجز عن الرسم بيديه , لدهشته كان الشكل الذي رسمه جميلاً , ربما جدير بالتصوير كذلك .. لكنه تذكر أنه لا يملك كاميرا ,  لا يملك حتى سعة في عقله كي يخزن الصورة الجميلة .. أي جمال و قد انتهى من حياته كل جمال ؟ و بات عاجزاً أصلاً عن رؤية الجمال ! أي جمال ؟!
وجد نفسه يتشنج و يضغط أسنانه في غل و هو ينثر الرمال كالناقة الغاضبة حتى أن الرمال دحلت في عينيه بقوة كادت تدميها و تخدش سطحها الذي كان يوماً أبيض .. دمعت عيناه قليلاً .. ثم بقوة .. ثم بعنف .. بطريقة لم يفهم معها ما سر كل هذا البكاء ! على الأقل هو لا يزال قادراً على إمتاع نفسه و الاختلاء بها و لو قليلاً , على الأقل سوف يمني نفسه بوجبة يحبها و مكان يعشقه يزوره غداً .. و غداً يحلها الحلال كما يقولون , لا زال لديه أمل رغم كل شئ , لازالت المتع الصغيرة تجدي نفعاً معه , و تفعل فعل المخدر حتى يبتسم في بلاهة منتظراً معجزة من السماء تأتي و تحل مشاكله الكبرى , على الأقل ما زال يملك القدرة على الأمل و الحلم ..رفع ذراعه كي يمسح وجهه و عينيه من الرمال و الدموع على سطح المعطف , لكنه بدلاً من الملمس الصوفي الناعم وجد ملمساً قطنياً مهترئاً ذي رائحة مكتومة .. رمش بعينه لتطالعه الغرفة الضيقة و مروحة السقف التي تصيبه بالصداع و لا تخفف الحرارة .. اكتشف أنه لازال في أواسط الصيف , و أن نتيجة الحائط تشير إلى أكثر شهر يكرهه على مدار السنة , و أنه في غرفته لا يزال عاجزاً عن الإتيان بخطوة بسيطة مثل السفر إلى تلك المدينة التي يحبها .. اكتشف أن أكثر من شهر لايزال يفصله عن الشتاء , و أن محفظته لا تحوي ما يكفي كي يسافر حيث يريد و لو بتذكرة ذهاب فقط .. اكتشف أنه غارق في الدموع و العرق و أنه كان يحلم ..
رفع يده كي يضم ياقة المعطف الوهمية الذي لا بد و أن العثة صنعت منه مفرشاً مخرماً الآن , هرش عنقه و أزاح العرق اللزج , و أغمض عينيه مرة أخرى و نام ...
فقط لو تخرج روحه  من جسده بنفس البطء و النعومة التي كانت الشمس تغيب بهما في حلمه !

الشيماء السيوفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق