الاثنين، 26 سبتمبر 2011

سقف الذكريات

ملقى على ظهره كان , ينظر إلى السقف المظلم و قد انطبعت عليه خطوط الضوء الباهتة التي تسربت من خصاص الشرفة , تلك الخطوط التي أظهرت جزءاً بسيطاً من الطلاء المتشقق القديم بفعل الزمن و الرطوبة و أشياء أخرى لا يعرفها , تلك الخطوط التي أعادته فجأة إلى لحظة تفصله عنها عشرون عاماً كاملة , نعم عشرون عاماً بالضبط . كان في بيت جدته و لكنها جدته الأخرى و ليست تلك التي يأويه بيتها الآن . كان وقتها صغيراً جداً , بريئاً جداً , ربما ليس بريئاً جداً فهو لا يذكر أنه كان - في يوم من الأيام - بريئاً جداً ,, فقط كان تعيساً جداً , تعيساً كلوحة جميلة أحيطت بإطار قبيح , تعرف جيداً قدر نفسها و أنها في يوم من الأيام سوف تصبح شيئاً لا يقدر بثمن , فقط لو استبدلوا إطارها الحالي هذا بإطار آخر أكثر ملاءمة . يمكن تلخيص كل ما أسهب في وصفه و تخيله في رأسه في كلمة واحدة بسيطة هي  .. "الأمل" .. الأمل أن الغد دوماً يحمل أشياء أفضل و أجمل بكثير , ربما القليل  من "الغرور" كذلك بما أنه يرى نفسه مستحقاً لتلك الأشياء , ليس بجدارة و لكنه يستحقها أكثر من كثيرين يعرفهم على أقل تقدير  . هكذا كان دائماً يبحث عن السعادة وسط الحزن و يبحث عن الحزن وسط السعادة !
عاد ينظر إلى  خطوط الضوء على السقف مع خلفية من أصوات الشارع و السيارات التي يطغى عليها صوت موتورات أتوبيس النقل العام الضخم , كان ضخماً بالنسبة له و هو صغير و لعجبه فهو لا يزال ضخماً إلى الآن ! تلك التركيبة من نومته فوق سرير قديم و الخطوط على السقف و صوت الأتوبيسات يخلق عنده جواً حميمياً و قشعريرة من الذكريات  , لا يدري إن كانت تلك التركيبة تمثل شيئاً لغيره و لكنها بالتأكيد تحمل  له رونقاً خاصاً  .
راح يقارن بين الماضي و الحاضر , لو أسبل جفنيه و سرح قليلاً لظن أن الزمن لم يمض , لربما حسب أن   خصاص الشرفة عند قديمه و ليس إلى يساره كما هو الحال الآن  , أشياء كثيرة لم تتغير و أشياء أكثر تغيرت .. نفس الظلام و الهدوء  , قديماً كان الظلام بسبب حكم الجدة الصارم التي لا ترتدي إلا السواد و لا  تنام إلا فيه , و رغم خوفه و كرهه له إلا أنه كان يذعن لأنه ما من حل آخر . اليوم تسبح الغرفة في نفس الظلام و لكن بإرادته  و على غير عادته , اختار اليوم كما اختارت الجدة منذ عشرين عاماً أن يغلق باب الغرفة على نفسه فلا يتسرب إلى الغرفة  إلا ضوء "نظارة" الباب و خصاص الشرفة  . كان يقطب و يلعن حظه العثر و هو صغير عندما تطفئ الجدة كل الأنوار  و تندس لتنام بجواره باطمئنان غريب , كيف يطمئن أحد في هذا الظلام ؟ ما أدراه أنه لا يوجد شبح ما يجلس على تلك الأريكة أو يختبئ فوق الدولاب و ربما أسفل السرير ؟! كانت تلك الدقائق الأولى  تمضي كأسوأ ما يكون , يظل يؤنب نفسه أنه وافق على المجئ هنا و المبيت معها بمفرده , هو و هي و العفاريت فحسب ! تمر الدقائق الأولى و تبدأ ملامح الغرفة في التبدي  على  استحياء ,  و يبدأ وقتها في مرحلة التحديق في السقف ذي الخطوط الباهتة المتسربة من خصاص الشرفة .
كان يحب بيت تلك الجدة  ربما أكثر من الجدة نفسها , و هو يشعر الآن بتأثر غريب  لأن ذلك البيت لم يعد في حوزتهم , تأثر لا تشعر به الجدة (صاحبة البيت)  , هو أصلاً لم يرها تأثرت بأي شئ في حياته , ربما بكت مرة أو اثنتين اشفاقاً على نفسها من معاملة أحدهم الخشنة  لها ...
كان يحب بيت تلك الجدة لأنه يقع في منطقة قديمة  على عكس البيت الذي يقطن فيه الآن , كان يحب شرفاته المدورة التي تفتح على أكثر من غرفة  , و إحساس القدم الذي يحبه كلما أصدرت ألواح الأرضية الخشبية  ذلك الصرير الخافت .
أما أجمل شئ في ذلك البيت فقد كانت إطلالته على بيت آخر أمامه يراه من الشرفة , بيت قديم نحت على أعلاه أشكال حيوانات و طيور , لا يزال يذكر شكل ذلك الأسد الرمادي الزائر كأنما يراه بأم عينيه الآن , رباه !
ما الذي اختلف وقتها عن الآن ؟  صوت الأتوبيس كان هادراً أكثر منذ عشرين عاماً   , ربما لأن الموتورات كانت أقدم و ربما لأن أذنه كانت أصغر و أكثر براءة  , و ربما لأن ذلك البيت كان في طابق أدنى من الذي هو فيه الآن . الغريب أنه أحب صوت الأوتوبيسات العالي الغريب , كان يحب سماعها من  عل و يخشى سماعها و هو في الشارع , كأنه يخرج لها لسانه و يقول " ازئري كما تشائين فأنا آمن في فراشي و لن أتواثب على الرصيف خوفاً من أن تصدمني أجسادك الضخمة"
لا , لم يتغير الكثير , هو لا يزال هو , لا يزال يؤنب نفسه بشدة بقدر ما يشفق عليها أحياناً , لا يزال يحمل الأمل و يتشبث به بعناد  , الفارق الوحيد أنه يفهم الآن ما يشعر به و ما يتوجب عليه فعله  .. أما قديماً فهو لم يكن يعرف أي شئ ...


الشيماء السيوفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق